بسم الله الرحمان الرحيم.
ابن باز .. ميلاده ونشأته
هو عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وُلِدَ في ذي الحجة سنة 1330هـ بمدينة الرياض، وكان مبصرًا، ثم أصابه مرض في عينيه عام 1346هـ فضَعُف بصره، ثم فقده بالكلية عام 1350هـ، ولكنه اجتهد فحفظ القرآن الكريم قبل سِنِّ البلوغ [1].
شيوخ ابن باز
جَدَّ الشيخ ابن باز في طلب العلم على أيدي أفاضل علماء المملكة السعودية، ومن أبرزهم: محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصالح بن عبد الوهاب، وسعد ابن حمد بن عتيق (قاضي الرياض)، وحمد بن فارس (وكيل بيت المال في الرياض)، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ (مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق)، الذي لازم ابن باز حلقاته صباحًا ومساءً، وتلقَّى عنه جميع العلوم الشرعية ابتداءً من سنة 1347هـ، وحتى سنة 1357هـ حين رشحه آل الشيخ للقضاء، وأخذ علم التجويد عن الشيخ سعد وقّاص البخاري (من علماء مكة المكرمة) عام 1355هـ [2].
ابن باز وجمعه صفات أهل العلم
لقد حوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله العديد من أخلاق أهل العلم؛ فقد كان شديد التعظيم للسُّنة والتطبيق المستمر لها، كما كان يتصف بالرِّقة وكثرة البكاء عند سماع القرآن، أو بعض الحديث، أو سِيَرِ العلماء الأجلاّء، أو أخبار المستضعفين من المسلمين، أو الشعر الجيد المؤثر، ولم يدفعه علمه الغزير للكِبْر؛ فكان شديد التواضع، مع علوِّ مكانته ومنزلته، يتصف بالحِلم العجيب الذي يفوق الحدّ. واتصف رحمه الله بالأدب الجم، والذوق الرفيع، وكان واسع الكرم والسخاء، سواء بالمال أو الوقت أو العلم أو الإحسان أو الشفاعة، ورفض أن يكتب القصر الذي بُنِيَ خصيصًا له باسمه –عندما تولى رئاسة الجامعة الإسلامية– وقال: "يبقى القصر باسم رئيس الجامعة الإسلامية؛ وكل من تولى رئاسة الجامعة فالقصر سكنٌ له" [3].
وقد وهبه الله تعالى ذاكرةً قويةً كانت تزيد مع تقدمه في السن، كما كان صاحب همَّة عالية، وعزيمة قوية لا تستصعب شيئًا، وكان ديدنه العدل في الأحكام سواء مع المخالفين أو الموافقين، ومن مآثره العظيمة، وأخلاقه الجليلة الثبات على المبدأ وعلى الحق، وكان يجمع إلى ذلك سعة الأفق، وبُعد النظر، والوفاء ودقة الموعد [4].
ابن باز .. أعماله وإنجازاته
كان القضاء أول عمل تولاّه سماحة الشيخ ابن باز في مدينة الخرج في الفترة (1357- 1371هـ)، إضافة إلى إمامة الناس، وخطبة الجمعة، وإلقاء الدروس في حلقات مستمرة أيام الأسبوع عدا يومي الثلاثاء والجمعة، ولديه طلاب كثيرون متفرغون لطلب العلم.
انتقل إلى الرياض في عام 1372هـ للتدريس في معهد الرياض العلمي، ثم في كلية الشريعة بعد إنشائها سنة 1373هـ، إلى أن صار نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1381هـ، وقد أسس حلقة التدريس في الجامع الكبير بالرياض منذ انتقل إليها، ولازمها كثير من طلبة العلم، وأثناء وجوده بالمدينة المنورة من عام 1381هـ نائبًا لرئيس الجامعة، ثم رئيسًا لها (1390-1395هـ)، عقد حلقة للتدريس في المسجد النبوي [5].حَجَّ الشيخ ابن باز اثنتين وأربعين حِجَّة؛ أولها عام (1349هـ)، ثم حَجَّ بعدها أربع حِجّات متفرِّقات، ثم لم يترك حجة -(37 حجة متتابعة)- في الفترة (1372- 1418هـ) [6].
ابن باز .. إسهاماته العلمية
جمع الشيخ ابن باز علومًا شتَّى؛ فإذا رأيته يتكلم في علم من العلوم ظننت أنه تخصصه، وأنه لا يحسن غيره، فهو إمام في الحديث وعلومه، ومعرفة رجاله وأحوال رواته، ومعرفة صحيحه من ضعيفه، وهو فقيه من الطراز الأول، وإذا نُوقِش في العقيدة ظننت أنه لا يحسن غير هذا الفن، وهو هكذا إذا تحدث في التفسير، ويتعجب السامع له من دروسه في علم الفرائض، وضبط مسائله، وقسمة التركات، وكأنه يقرأ من كتاب.
مؤلَّفات ابن باز
ترك الشيخ ابن باز مؤلَّفاتٍ وآثارًا علمية كثيرة تناولت جوانب عديدة؛ وكان منها المخطوط، ومنها المسموع، ومنها المطبوع، ومن أهمها:
الفوائد الجلية في المباحث الفرضية؛ وهو من أوائل مؤلفاته، وكانت طبعته الأولى في (1358هـ)، واهتم الشيخ ابن باز بتوضيح العبادة الصحيحة؛ فألَّف: التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة (توضيح المناسك)؛ وقد جمعه عام (1363هـ)، حين كان قاضيًا في الخرج، وطُبِعَت منه طبعات كثيرة، وتُرْجِمَ إلى عدة لغات، وثلاثَ رسائل في الصلاة، ورسالتين موجزتين في الزكاة والصيام، كما أنَّ له مجموع فتاوى ومقالات؛ جمعها الدكتور محمد بن سعد الشويعر، وخرج منها للنور ثمانية عشر مجلدًا، واهتم الشيخ ببيان العقيدة الصحيحة، وحذَّر من البدع، وأبان أضرارها؛ فأخرج: كتاب العقيدة الصحيحة وما يضادُّها، والتحذير من البدع، ووجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه، كما أدلى بدلوه في مواجهة الحملة ضد سّنَّة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخرج كتاب وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر مَن أنكرها.
وكان لابن باز إسهاماته في مجال التأليف الدعوي؛ فقد ألَّف: الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة، حكم السفور والحجاب ونكاح الشِّغار، نقد القومية العربية، الجواب المفيد في حكم التصوير، الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته، حاشية مفيدة على فتح الباري، الجهاد في سبيل الله.ولسماحة الشيخ ابن باز بحوث علمية، وردود فقهية واجتماعية نشرت في العديد من المجلات والصحف داخل المملكة وخارجها، هذا إلى جانب الأعداد الضخمة من الفتاوى التي ردَّ بها على مستفتيه المنتشرين في مختلف أنحاء العالم.
إجلال ابن باز لأهل العلم
لأهل العلم منزلة خاصة عند الشيخ ابن باز؛ إذ كان يحبهم ويقدرهم حقَّ قدرهم، ويُنزلهم منازلهم اللائقة بهم [7]، ومن مواقفه المشهودة في ذلك؛ ما رواه الشيخ محمد المجذوب (من علماء المغرب) عن غضب الشيخ ورعدته وخطابه الذي أرسله إلى الحكومة المصرية عند إعلان قرار المحكمة بإعدام العالم الجليل سيد قطب وإخوانه رحمهم الله، وكانت برقيةً تقطر نارًا، ختمها الشيخ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] [8]، وكانت البرقية الوحيدة من أنحاء العالم الإسلامي التي تحمل أشد العبارات قسوةً.
ومما يذكر في هذا المقام أيضًا؛ طلبه الاطلاع على رسائل الشيخ حسن البنا؛ فلما قرئت عليه أبدى إعجابه ببعضها، وعلق تعليقًا يسيرًا على البعض الآخر [9].
ثناء العلماء على ابن باز
كان لسماحة الشيخ منزلة عظيمة سامية عند الجميع كبارًا وصغارًا وفي كل مكان من أرض الإسلام؛ وقد زاره الشيخ محمد الغزالي مرة، ولما همَّ بالخروج قال: "نحن بخيرٍ ما دام فينا هذا الرجل" [10].
وقال عنه عبد الله بن سليمان بن منيع: "ولقد تقلَّد القضاء حفظه الله في آخر شبابه ومستهل كهولته، فكان نِعْمَ القاضي العادل، ونعم القاضي العالم، ونعم القاضي المرضي، فما من حكم يصدر من سماحته في قضائه إلا هو موضع التسليم والرضى والقناعة من طرفي الخصومة، لما يتمتع به حفظه الله من القبول لدى الجميع، والقناعة به من الجميع، والاطمئنان إلى ما يحكم به من الجميع" [11].ابن باز ومنهجه العلمي والفكري
منهجه في العقيدة
يرى الشيخ الإيمان بصفات الله تعالى على ما وردت دون تكلف لتأويل أو تعطيل، ويرى الشيخ أنه لا وسيلة لتثبيت العقيدة كالدلالات الحاسمة من الكتاب والسنة، وكل تعويل على ما سواها مما ذهب إليه علماء الكلام مؤدٍّ إلى الاضطراب والتشويش [12].
منهجه في الفقه
يأخذ بأصول الإمام أحمد، غير أنه لا يتقيد بالمذهب، إذا ظهر له الدليل على خلافه، ويفضل الاجتهاد في تقصي الأدلة [13].
منهجه في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر
كان الشيخ ابن باز داعيًا إلى الله عاملاً بما يقول، يغار على دين الله، يُجِلُّ أهل العلم، وينصح لهم، ولا يُفوِّت فرصة للخير إلا سعى إليها سعيًا حثيثًا، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويفعل الخير، ويحث الناس عليه، فكان إذا ثبت لديه وقوع منكر من شخص أو جهة كتب إليهم، وخاطبهم مشافهة، أو استدعى من يعنيه الأمر، ثم أنكر عليه بلطف، وبيّن له الأدلة على ما يقول، ورغّبه في الخير، وحذره من الشر؛ فما يكاد يقوم بهذا الأمر إلا ويجد قبولاً واستجابة، وكم درأ الله بمنهجه هذا من مفسده! وكم قضى على منكر! وكم أحيا من سنة! وقمع من بدعة ! [14].
وكان من منهج ابن باز رحمه الله مع طلابه؛ تربيتهم على مكارم الأخلاق، وتدريبهم على البحث والنظر في الأدلة واتباعها، واحترام العلماء، وتنزيلهم منازلهم [15].
أهم المناصب التي تولاّها ابن باز
تولى الشيخ ابن باز رحمه الله رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ثم منصب مفتي عام الملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، كما كان رئيس وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك رئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد.
ومن مسؤولياته الجِسام: رئاسة المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي، وكان عضوًا بالمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وعضو الهيئة العليا للدعوة الإسلامية.وتولَّى الشيخ ابن باز القضاء في منطقة الخرج سنة 1357هـ لأكثر من أربعة عشر عامًا، وتولَّى التدريس في المعهد العلمي بالرياض سنة 1372هـ، وكلية الشريعة بالرياض سنة1381هـ، في علوم الفقه والتوحيد والحديث، وقد عُيِّن في عام 1381هـ نائبًا لرئيس الجمعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم تولَّى رئاسة الجامعة الإسلامية في سنة1390هـ [16].
وفاة ابن باز
توفّي الشيخ ابن باز يوم الخميس (27 من المحرم 1420هـ) عن عمر يناهز 89 سنة بعد حياة عامرة بالعلم تعلُّمًا وتعليمًا؛ فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء [17].